خالد الشربيني يكتب: التفوق والمعرفة.. ماذا يعني أن نخرج من عقر دارنا؟

منذ 100 عام وأكثر ونحن نعيش الغربة في انتماءات تسمى “أوطان” أرادت أن تذهب بعيدا وفق المساحة الجغرافية التي وهبت لها، فتجاهلت أو جهلت عقود الريادة والقيادة التي سادت العالم تحت عدالة الإسلام، كانت أنظارها متجه إلى أوربا وأميركا اللتان أبادة فينا النخوة والإحساس ودثرتنا بعباءة الانبطاح والهوان، فخذلنا أنفسنا لنصبح وهنا على وهن، فانسلخت منا الإنسانية التي يجب أن تكون في الداخل لتتحول إلى الخارج، فكل أحاديثنا معهم إنسانية بحتة نجلهم أيما تبجيل ونضعهم قدوة لنا في كل مشروع يقودنا إلى الهاوية في نهايته، استفحل وباء اللاهوية بين الأجيال، فإجازة العلم والحصول على شهادات لا يكون إلا من جامعاتهم وحاضناتهم، والتفوق والمعرفة لا يمهران إلا إذا خرجت من عقر دارهم، فدفعنا وتدافعنا جيل بعد جيل حتى أصبحت قيمة الأفراد تقاس بما لديها من لسان معوج وحصيلة الاقتداء بأعلامهم ومؤلفيهم وكيل وفير من معلقات الإعجاب على فنهم وشعرهم ولاعبيهم في المجال السياسي والاقتصادي والأدبي والرياضي، حتى بلغ الأمر أن نتسمى بهم، فنسينا الله فأنسانا أنفسنا.

على الشاشة ظهر جمع كبير من “الجمهور” وقد كساه الحزن من رأسه حتى أخمص قدميه، فمنهم من ناح وفاض الدمع من عينية، ومنهم من صرخ في “ناقل الصوت” وزمجر وتجرد: ” أقيلوا الكوتش”! ومنهم من تجرأ وطالب وتبرأ: “أقيلوا الاتحاد”، فالإعلام وقف وشمخ وقال هذه حرية تعبير ومطلب “الجماهير” وعلى المسؤول سماعها وتحقيق مبتغاها لأنها الأجل والمصير، من أجل أن نتطور ونقتدي بالكبار ويكون لدينا سمعة واستثمار، فنبلغ الأمجاد ونعيد رسم التاريخ، وكثير من هذا الكلام الذي لا يستهان به، فيرقى إلى المنصات ويحاط بالبراويز لأنه “وحي” الإنسان ومطلب الحضارة والتقدم، ومهبط التنافس الذي سنعرف به أمام العالم المتشابك شكلا والمتأزم والمتنافر مضمونا والموجه إلى أسفل سافلين جملة وتفصيلا، إنه الواقع المتشظي والمفكك الذي لا يمكن أن يدفع الإنسان إلى واقعه الاجتماعي والحقوقي، بل يحوله إلى مستهلك منهك بأفكار تقليدية لا ترفع له شأن ولا تدفع عنه ضر، فحسب ولاءه وانتماءه يتأطر عقله المحدود، والحصيلة بأن نحيبه وخصامه على فريقه هو أكبر همه في حياته.. فأي جيل هذا؟ وأي وجهة نوليها ونحن الحفاة عقلاً والعراة منطقاً وحكمة؟

ما الذي يدفع الصهاينة إلى ممارسة ساديتهم الحربية بكل أريحية ووسط مكاء وتصدية أممية؟ وما الذي يجعل “الأنظمة العربية” تسد أذانها وتدفع شعوبها إلى البحث عن فتات العيش وفقه المؤثرين والمتأثرين؟ فأين الملايين التي لم تستطع أن تولي وجهها نحو القبلة ولم تدرك معنى الخروج إلى الشوارع؟

في المقابل وهناك في أدنى الأرض يفيض الدم أنهارا وتؤد الطفولة علنا وتهدم الدور على رؤوس ساكنيها كأنها لعبة تحرك فتتناثر الأشلاء تحتا وفوقا، فلا حرمة لمساجدنا ولا إنسانية لمرضى مستشفياتنا ولا ذمة في حقوقنا ولا إلاً في كرامتنا، ومن بقي فالجوع والعطش وليه فتتصاعد التحذيرات الأممية بالإبادة كلاما وصورا، أما المقربون الضالون تائهون ونائمون، خدروا شعوبهم بالمشروعات والاستراتيجيات، فأحاطوا أنفسهم بحدود الوهم ودسوا وجوههم في الرمال فماتت ضمائرهم ومالت أعناقهم ذلا وهزيمة، فأُغلقت الأبواب والحدود واحكمت المتاريس لإبادة شعب الجبارين مع سبق الإصرار والترصد، بينما تحج الأساطيل براً وجوا وبحرا حاملة المؤمن والعتاد من دولهم إلى الصهاينة، فأي ذل هذا؟ وأي تاريخ تسجله في سجلاتها؟ وكيف تقرأ الأجيال المتشكلة وقفت أنظمتها؟ وماذا يدون الراوي عن هذا الوضع؟ فهل يا ترى تسكت مغتصبة؟

لقد أصبحنا بلا مرجعية في الفكر والجغرافيا، وبلا مبادئ تحكمنا وبلا هدف يربطنا، فقطعنا أوصال الوشائج المشتركة، وتنازلنا عن إرثنا الذي كان الانقلاب الأكبر في التاريخ سياسا واقتصاديا ومعرفيا الذي استطاع تغيير النظرة الانهزامية بقيم وقوة سياسة وعسكرية حققت الاستدامة وأذلت وأطاحت بأكبر الامبراطوريات (الرومانية والفارسية) عن طريق الإتلاف الذي كان الوعي دليله والوحي موجهه والرسالة العادلة إطاره السلمي وإطاره الحربي حتى أخذت الأرض زخرفها وازينت وفاض الخير وعم، نعم إنها الحضارة الإسلامية التي طغت بفيض المساواة واعطت الناس حقوقها ونصرت المظلوم وأوقفت الظالم، فهل  وصل ذلك الإرث إلى الأجيال الحالية لتتكأ عليه وتبحر به وسط أمواج الشر والتكالب؟ وهل الأجيال قادرة على تغيير الحالة الراهنة وتغيير شيء من زماننا الذي بات نكسة ونكبة وعلامة سوداء في تاريخنا؟

 

إن الوضع الراهن الذي فقد بريقه يدفعنا إلى طرح علامات استفهام تتقاطر خجلا لمآلنا الذي أدمى قلوبنا، ما الذي يدفع الصهاينة إلى ممارسة ساديتهم الحربية بكل أريحية ووسط مكاء وتصدية أممية؟ وما الذي يجعل “الأنظمة العربية” تسد أذانها وتدفع شعوبها إلى البحث عن فتات العيش وفقه المؤثرين والمتأثرين؟ فأين الملايين التي لم تستطع أن تولي وجهها نحو القبلة ولم تدرك معنى الخروج إلى الشوارع؟ وأين الحقوقيون الذين يهتزون لموت الحيوان؟ وأين أولئك الذين تقاطرت قلوبهم فرحا ومتابعة للعلاقة التي ضجت بها وسائل الإعلام التي جمعت القطة والبطة؟ وأين المتسمرين في المدرجات الخضراء الذين يحزنون لمجرد ضعف أداء فرقهم ومنتخباتهم؟ نعم جميعهم منبطحون لا عقل لهم ولا منطق، ولا استثني منهم أحدا. فهم جمعا وقلوبهم شتى.

إن واقع “الأنظمة” القريب والبعيد لا يومأ بشيء من الحراك ولا يستقرأ منه إلا النوم نومة الخلود مهما حاولنا إيقاظه، لأن الاعترافات بالكيان الصهيوني أو ما يسمى اليوم بإسرائيل من قبل دول نعدها الوجهة والقيادة كانت البذرة التي زرعت في محيطنا، فتبعتها تطبيعات علنية وتشكلات للحلف الاستراتيجي الحربي العربي والإسرائيلي لمواجهة قرارا التحرر الوطني وتقويض محور المقاومة واتفاقيات شراكة وأحضان دافئة  تاجرت بالقضية ولبست “المايوه” وتمددت على شواطئ إيلات لتأخذ حمام شمسي مدفوع ومنقوع بشراب الذل (لا تسقني ماء الحياة بذلة  بل فاسقني بالعز كأس الحنظل .. ماء الحياة بذلة كجهنم   وجهنم بالعز أطيب منزل) الذي دفعت به الإمبراطورية الأورو أميركية وأشهرته في وجه الإسلام منذ الوهلة الأولى عندما زرعت الكيان الغاصب على أرض فلسطين، إنه الواقع والراهن الاستعماري الذي تربى بين حجر ومدر وساهم الجبناء والخونة في إكثاره والمحافظة عليه بكل الصور المندسة في كل شبر من العالم العربي والإسلامي.

لا يمكن أن تسكت مغتصبة إن طال الزمن أو قصر، لذلك فإن التوجه الاستعماري المتمثل في “زرع إسرائيل” في قلب العالم العربي والإسلامي هو آخر الأساليب التي ستدفع بالنهضة الإسلامية إلى تكوين إتلاف بقوة سياسة وعسكرية وبعدا اقتصاديا يقف في وجه الرأسمالية التي ساهمت في استدامة الاستعمار

لقد أصبحنا الدمية بيد المستعمر؛ الدمية التي لا يخافها اليهود بكيانهم المدعوم من الجميع، لأن الأنظمة العربية وجيوشها الجرارة مجتمعة أو متفرقة لا تشكل أي تهديدا بحسب وصف الدجال الأعور الصهيوني موشيه ديان: “إنني لا أخشى من كل الجيوش العرب مجتمعة لكنني أخشى هذه الكتائب القليلة من الإخوان المسلمين فهم عدونا الأول ولن اطمئن على مستقبل إسرائيل إلا إذا تم القضاء عليهم”، إن الخوف الذي أنهك المستعمر في بدلته المتجددة منبعه النهج الإسلامي، فلذلك قامت الدول المستعمرة بتوريث ذلك الخوف في واقع الأنظمة العربية لتشن عداوتها على كل ما هو إسلامي، فكانت الأنظمة الحائط الأول الذين شكل اتحاد مع تلك القوى لتفكيك حركات المقاومة الإسلامية، إلا أن ذلك التكالب هو المولد الحقيقي للقوة والثبات، وهو الذي سينشأ الأجيال التي ستنهي حقيقة الخرافة الغربية الاستعمارية، ولا بد من دفع الثمن باهظاً لنتحرر من كل تصرف كذاب أفاق ودجال منبطح خائن.

لا يمكن أن تسكت مغتصبة إن طال الزمن أو قصر، لذلك فإن التوجه الاستعماري المتمثل في “زرع إسرائيل” في قلب العالم العربي والإسلامي هو آخر الأساليب التي ستدفع بالنهضة الإسلامية إلى تكوين إتلاف بقوة سياسة وعسكرية وبعدا اقتصاديا يقف في وجه الرأسمالية التي ساهمت في استدامة الاستعمار، هذا الإتلاف سيخرج من “أدنى الأرض” وبثوب وثبات السيرة المحمدية وسيقف في وجه المرتدين الذي ارتدوا عن دينهم وسيعرف المنافقين الذين شغلتهم تجارتهم وأهلوهم عن الخروج.. ولا يمكن أن نصدق شعار الدولة المستقلة الذي يهلوس به العجوز الخرف بايدن، لأن الطوفان كشف السوءة وهو مستمر ما استمر الإنسان الحر بعقيدته ودينه.

قال المفكر الدكتور أنيس النقاش: “في القتال سيكون هناك جبهتين تتقاتلان؛ من يريد تحرير فلسطين ويعيد المقدسات الإسلامية ومن يقف مع الصهيونية تنفيذا للمشروعات الأميركية في المنطقة، ومن يعتقد بأن إمارته وإن ملكيته ودوله لا يمكن أن تبقى إلا بسيطرة الغرب على هذه المنطقة”.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى